- موضوعات علمية
- /
- ٠2ندوات الإعجاز العلمي
مقدمة :
المذيع :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .
أخوة الإيمان والإسلام ؛ ندعوكم معنا في مثل هذه الحلقات للتفكر والتأمل في خلق السموات والأرض ، نتلمس عظمة الخالق عز وجل ، لقد بدأ هذا الدين برجل واحد ، فأصبح أمة ، فكان لا بد من إعجاز وقدرة إلهية ، وقدرة على الإقناع .
أيها الأخوة ؛ من خلال هذه الحلقات التي تدور حول الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة نتناول في كل لقاء آية من آيات الله عز وجل ، نرى بين أيدينا كتاباً مؤلفه معنا نحاوره ويحاورنا ، الكتاب تحت عنوان : " الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة " أما المحاور فهو فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ محاضر في كلية التربية بجامعة دمشق ، خطيب ومدرس ديني في جوامع دمشق ، أهلاً وسهلاً بك .
بداية فضيلة الدكتور ، نريد أن نعرّف بهذه المادة التي سنتناولها من خلال هذه اللقاءات .
تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف و تكريم :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الله عز وجل خلق هذا الكون ، وسخره للإنسان تسخير تعريف وتكريم ، ردّ فعل التعريف أن نؤمن ، وردّ فعل التكريم أن نشكر ، فالإنسان حينما يؤمن وحينما يشكر يحقق سرّ وجوده في الحياة ، بدليل أن الله عز وجل يقول :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
إنكم حينما تحققون علة وجودكم من أجل أن تعرفوا الله ، وتعبدوه ، وتسعدوا بعبادته في الدنيا والآخرة ، ذلك أن من أدق تعريفات العبادة أنها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، ففي هذا التعريف الدقيق جانب معرفي هو السبب ، وجانب سلوكي هو الأصل ، وجانب جمالي هو الثمرة ، فالله عز وجل خلقنا ليسعدنا ، على خلاف ما يتوهم بعض الجهلة ، بدليل قول الله تعالى :
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
المدرسة حينما تؤسس من أجل أن تخرج قادة للأمة ، الطالب حينما يقصر يعاقب ، فإذا توهم هذا الطالب المقصر أن هذه المؤسسة التربوية الضخمة أنشئت لتعذيب الطلاب فهو جاهل جهلاً فاضحاً ، فالله عز وجل خلقنا ليسعدنا ، سعادتنا اللامتناهية تحتاج إلى معرفة ، والمعرفة من لوازمها الطاعة .
إنك حينما توقن أن الذي أمر أمره يطولك ، وقدرته تطولك ، فلا بد من أن تطيعه ، الكون مظهر لأسماء الله الحسنى ، وتجسيد لهذه الأسماء ، والصفات العلا ، الله عز وجل لا تدركه الأبصار ، ولكن كل شيء في الكون ينطق بوجوده ووحدانيته وكماله . والله عز وجل حينما خلق الإنسان جعله مكرماً ، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
هذه الآية تبيّن تكريم الإنسان ، وفي آية أخرى تبيّن تكليفه :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
وفي آية ثالثة تبيّن أنه المخلوق الأول رتبة ، بدليل قوله تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
فهو المخلوق الأول رتبة ، لأنه قبِل حمل الأمانة ، والأمانة نفسه التي بين جنبيه:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
أي يفلح هذا الإنسان ، وينجح ، ويسعد إلى أبد الآبدين حينما يزكي نفسه ، أي يعرّفها بربها ، ويحملها على طاعته ، هذا هو الامتحان ، لكن الله جلّ جلاله ما كلفنا حمل الأمانة إلا بعد أن أعطانا مقوماتها .
والحقيقة أنّ هذا الموضوع هو تمهيد شديد الصلة بمحور هذه الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى ، ما كلفنا حمل الأمانة إلا بعد أن أعطانا مقوماتها .
أول مقوم من مقومات حمل الأمانة هذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله .
المذيع :
ما دمنا فضيلة الدكتور نتحدث عن طاعة المخلوق ، فهل التعرف إلى الله سبحانه وتعالى من خلال آياته الكونية والقرآنية تعطي دافعًا للمؤمن والمسلم على طاعة الله عز وجل واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؟
من آمن بالله و طلب الحقيقة سعد في الدنيا و الآخرة :
الدكتور راتب :
حينما نقول هذه المقولة الأساسية : أنت حينما تعرف الآمر ، وتعرف الأمر تتفانى في طاعة الآمر ، أما حينما لا تعرف الآمر ، وتعرف الأمر فتتفنن في التفلت من هذا الأمر ، فحلقة اليوم محورها : " كيف نعرف الآمر ؟ " ، فالله عز وجل حينما كلفنا أن نعرفه ، وحينما كلفنا أن نطيعه ، من أجل أن نقطف ثمار هذه الطاعة سعادة وسلامة في الدنيا والآخرة، كيف نعرفه ؟ هذا الكون مظهر لأسمائه الحسنى ، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
إلا أن الإنسان ما لم يتخذ قراراً أوّلياً لطلب الحقيقة ، ولو كان في أكبر محطة فضاء في الأرض لا يؤمن بالله ، ولو كان في أضخم مجهر إلكتروني وهو يرى الخلية لا يؤمن بالله ، لكن يؤمن بالله إذا اتخذ قراراً أوّلياً بطلب الحقيقة ، الإنسان هو المخلوق المتميز عن بقية المخلوقات بقوة إدراكية ، فإن لم يطلب الحقيقة ، ولم يبحث عنها هبط من مستوى إنسانيته إلى مستوى آخر لا يليق به .
المذيع :
قد يقول البعض : إن الإعجاز لا بد منه للإقناع ، ولكن قد يذكر البعض أننا لسنا بحاجة للإعجاز ، بل هو فقط للعوام ، ولكن الخواص لهم إعجاز آخر ، وهم يطيعون من دون إعجاز ، ومن دون هذا الإقناع .
تمسك المؤمن بدينه وثوابته ومبادئه :
الدكتور راتب :
كلام طيب ، الإنسان حينما يعبد الله من دون أدلة قوية جداً يعبد الله بفطرته ، الفطرة السليمة تدعونا إلى أن نعبد الله ، بل إن الإنسان لا يجد نفسه إلا إذا عبد الله ، الإنسان لا يحقق توازنه ، ولا يستريح إلا إذا عبد الله ، لكن هذه العبادة التي لا تدعم بأدلة قوية جداً عبادة هشّة ، لا تقاوم ضغطاً شديداً ، ولا إغراءً شديداً ، فلعله في عصور سابقة الفتن نائمة ، والشهوات مستعرة ، فيمكن أن نكتفي بعبادته فكرياً ، أما الآن فالضلالات لا تعد ولا تحصى، والشبهات على الأديان لا تعد ولا تحصى ، والمصالح صارخة ، وكل شيء يدعو إلى المعصية، في مثل هذا الجو الصعب جداً لا بد من أدلة قوية تقوي مناعتنا ومقاومتنا للضغوط والشهوات .
فالمؤمن الصادق لا يتحول عن منهجه ، لا تحت سياط الجلادين اللاذعة ، ولا أمام بريق سبائك الذهب اللامعة ، هو مؤمن ، متمسك بدينه وثوابته ومبادئه ، كما قال الله عز وجل :
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
مقوِّمات التكليف :
1 ـ الكون :
أول مقوِّمٍ من مقوِّمات حمل الأمانة هذا الكون ، لكنه يحتاج إلى عقل ، وأداة معرفة ، ومن بديع خَلْقِ الله عز وجل أن هذا الكون صمم وفق نواميس ، أحدها السببية ، فما من شيء في الأرض إلا وله سبب ، من أجل أن يقودنا مبدأ السببية إلى مسبب الأسباب ، لو تصورنا أن هذا الكون نظامه بلا مبدأ السببية نجد الشيء بلا زراعة ، نجد الماء بلا حفر بئر ، لتوهمنا أن هذا الكون بلا خالق ، لأن الله صمم هذا الكون وفق نظام السببية ، فنظام السببية نفسه يقود إلى معرفة الله عز وجل .
2 ـ العقل :
والعقل من أبرز مبادئه السببية والغائية وعدم التناقض ، فكل شيء له سبب ، وله غاية ، ولا يقبل العقل البشري أن يكون إنسان في دمشق وفي بيروت في وقت واحد ، نظام العقل البشري متوافق مع نظام الكون ، فكما أن الله عز وجل جعل هذا الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى جعل مبادئ العقل متوافقة مع نظام الكون ، فالمقوِّم الثاني هو العقل ، وتكاد تكون آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن العقل تقترب من ألف آية ، وأسوق هذه القصة التي وردت في صحيح البخاري ، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
(( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً ، فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا ، فَجَمَعُوا ، فَقَالَ : أَوْقِدُوا نَارًا ، فَأَوْقَدُوهَا ، فَقَالَ : ادْخُلُوهَا ، فَهَمُّوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا ، وَيَقُولُونَ : فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّارِ ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ))
في منهج الإسلام العظيم العقل لا يعطّل أبداً .
الآن : أعطانا كوناً ينطق بعظمته ، ووحدانيته ، وبعلمه ، وبرحمته ، وبلطفه ، كل أسماء الله الحسنى مجسدة في الكون ، ولكن علينا أن نبحث عنها ، وإن شاء الله تكون الحلقات القادمة حول هذا المحور .
3 ـ الفطرة :
ثم إن الله سبحانه وتعالى أعطانا فطرة ، العقل مقياس علمي ، لكن الفطرة مقياس نفسي ، نكشف به أخطاءنا ، الإنسان حينما يخطئ ، وحينما يخرج عن جبلته ومبادئ فطرته ، وعن إنسانيته يتألم أشد الألم ، سمّي هذا كآبة أو شعوراً بالذنب أو بالنقص ، إنه ألمٌ نفسي ، هذه الفطرة ، والدليل على وجود الفطرة الآية الكريمة :
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
أي أنه ألهمها أنها حينما تفجر أنها تفجر ، والعياذ بالله لا يمكن أن تفهم الآية كما يفهمها بعض الجهلة ، أن الله خلق فيها الفجور ، لكن الآية تعني أن برمجة هذه النفس في مستوى رفيع جداً ، حيث لو أخطأت تتنبأ أنها أخطأت ، كيف أن بعض الآلات الحديثة جداً يصيبها خلل يظهر على الشاشة موضعُ الخلل ، كذلك النفس الإنسانية حينما تفجر تعرف أنها فجرت ، وحينما تتقي تعرف أنها اتقت ، هذه الفطرة ميزان نفسي ، فأنا بالعقل أتعرّف إلى الله ، وبالفطرة أكشف خطئي .
إنسان لو كان بجزيرة نائية لم تصل إليه رسالة إطلاقاً ، لو أنه فعل شيئاً قبيحاً تنكره الأديان كلها لعرف أنه فعل قبيحاً بشكل ذاتي فطري ، فأول مقوِّم الكون ، والحديث عنه في الحلقات القادمة إن شاء الله ، وثاني مقوِّم العقل بمبادئه الثلاثة ، السببية ، والغائية ، وعدم التناقض ، والمقوم الثالث الفطرة السليمة .
4 ـ الشهوة :
الآن الإنسان من دون شهوة كتلة جامدة ، لولا أن الله أودع فينا الشهوات لما رأيت شيئاً على وجه الأرض ، الحركة تحتاج إلى دافع ، فالدافع للطعام والشراب يحتاج إلى أن تتعلم ، وتكسب وظيفة تعيش منها ، الدافع للطعام والشراب يدفعك لتكون تاجراً ، أو صناعياً ، أو طبيباً ، أو مهندساً معمارياً ، أو بائعاً ، فالحاجة الأولى في الإنسان هي الطعام والشراب ، هي حاجة لحفظ الفرد ، والحاجة الثانية هي الحاجة للطرف الآخر ، حاجة الجنس ، هذه حاجة لحفظ النوع ، والحاجة الثالثة لخلود الذكر ، وهي تأكيد الذات ، الإنسان يبدأ فيأكل ، ثم يتزوج ، ثم يحب أن يؤكد للناس أنه متفوق ، هذه الدوافع الثلاثة جاءت بشكل آخر في القرآن الكريم ، قال تعالى :
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
فهذه الشهوات أودعها الله فينا لتكون قوة دافعة ، لكنها حيادية ، بمعنى أنك إن وظفتها وفق منهج الله كانت قوة دافعة نافعة ، أما إذا وظفتها في الشر فستكون قوة مدمرة ، أرأيت إلى البترول السائل - البنزين - إذا وضع في مستودعات محكمة ، وسار في الأنابيب المحكمة ، وانفجر في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ولّد حركة نافعة ، نقلتك إلى مكان جميل أنت وأهلك ، أما إذا وضع هذا السائل المتفجر على المركبة ، وأصابها عود ثقاب أحرق المركبة ومن فيها ، والمادة هيَ هِيَ ، فالشهوات حيادية ، وهي سلّم نرقى بها إلى أعلى عليين ، أو نهوي بها إلى أسفل سافلين ، أدق كلمة في الشهوات أنها حيادية ، المال يوظف في الخير والشر ، والمرأة توظف في الخير زوجة ، في الشر زنا ، وما من شهوة أودعها الله في الإنسان - وهذه حقيقة دقيقة - إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها .
الشهوات قوى محركة ، أو قوى مدمرة ، لأن الإنسان مخير فكل خصائصه وحظوظه حيادية ، لو أن إنساناً سأل : هل المال نعمة ؟ ليس نعمة ! نقمة ؟ ليس نقمة ! المال قيمة موقوفة على طريقة توظيفه ، إن وظفته في الخير كان سبباً إلى أعلى مقامات الجنة ، وإن وظف في الشر كان سبباً لبلوغ أسفل دركات النار . المال ، والمرأة ، والعلو في الأرض هذه كلها قيم حيادية . لذلك يوجد ملمح لطيف في قوله تعالى :
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
جاء الردع :
﴿ كُلّاً﴾
ليس عطائي إكراماً ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء، وحرماني دواء ، فالشهوات يمكن أن نرقى بها ، ويمكن أن نهوي بها ، فصار الكون والعقل والفطرة والشهوة من مقومات التكليف .
5 ـ حرية الاختيار :
بقي من المقوِّمات حرية الاختيار ، لولا أن الإنسان مخير لما كان لعمله قيمة ، لو أن الله عز وجل أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً .
يروى أن رجلاً شارب خمر جيء به إلى سيدنا عمر ليقام عليه الحد ، فقال : " والله يا أمير المؤمنين ، إن الله قدّر عليّ ذلك - أجبره على أن يشرب الخمر - فقال : أقيموا عليه الحد مرتين ، مرة لأنه شرب الخمر ، ومرة لأنه افترى على الله ، قال : ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار " . وفي أيّ ثانية نعتقد أن الإنسان مجبر ومسير في كل شيء نكون قد ألغينا الثواب والعقاب ، والجنة والنار ، والتكليف والمسؤولية ، ولأوقعنا أنفسنا في عقيدة فاسدة تشف أن هناك مهزلة في الكون ، هل تصدق أن مدير مؤسسة يريد وظيفة فيجري مسابقة يتقدم إليها الآلاف وفي ذهنه واحد سيعيّنه في النهاية ؟ هذه تمثيلية سمجة ، فالإنسان مخير :
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
هذه الآية أصل في أن الإنسان مخيّر ، لكن حينما نتوهم أن هذه الآية تعني أنه مسيّر فقد قال العلماء : الآيات المتشابهة مهما كثرت تُحمَل على الآيات المحكمة مهما قَلَّتْ ، فإذا قرأنا آية :
﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾
قال العلماء : هذا الإضلال الجزائي مبني على ضلال اختياري ، وما من مثل يوضح هذه الآية كطالبٍ لم يتقدم إلى الامتحان ، ولم يداوم ولا ساعة ، وجاءه إنذار أول ، وثانٍ ، وثالث ، ولم يستجب ، فصدر قرار بطرده من الجامعة ، هذا القرار تجسيد لرغبته بترك الدراسة ، فإذا قرأنا آية يُشَمّ منها رائحة الجبر فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري ، كقوله تعالى :
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾
6 ـ المنهج :
الكون والعقل والفطرة والشهوة والاختيار مقوّمات التكليف ، بقي شيء واحد هو المنهج ، فضلاً عن أن العقل أداة معرفة الله ، وعن أن الفطرة تكشف لك خطأك ، وأن الشهوات قوى دافعة أو مدمرة ، أعطاك منهجًا ، افعل ولا تفعل ، هذا المنهج هو هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه الكريم ، وكذلك الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء الله الكرام .
خاتمة و توديع :
المذيع :
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً وكرماً ، يا أرحم الراحمين .
فضيلة الدكتور إن شاء الله نبدأ في الحلقات القادمة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ، قال الله تعالى :
﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
إذاً أيها الأخوة والأخوات ؛ إلى حلقة قادمة بإذن الله تعالى من هذا البرنامج : " الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة " أستودعكم الله ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.